بارومتر تورشيلى






من الفروق العظيمة بين الصلب والسائل أن الصلب اذا ترك لنفسه فإنه يضغط على ما يكون تحته من الاشياء فى حين ان السائل يضغط جانبيا والى اعلى أى انه يضغط فى جميع الاتجهات ويمكنك أن تثبت أن للماء ضغطا فى جميع الجهات بأن تجىء بمثانة صغيرة منفوخة وتربطها فى عصا طويل ثم تدفع المثانة بالتدريج فى وعاء به ماء فتلاحظ ن لمثانة تصغر كلما زاد عمقها فى الماء ثم هى فى نفس الوقت تظل كرة تامة الاستدارة كالأصل وهذا يدل على ان الماء يضغطها من جميع الاتجاهات لا من أعلى فقط ولا من اسفل فقط ولا من الجوانب فقط أما بالنسبة للهواء فقد أدرك قدماء الاغريق فعلا أن له وزنا ما ولكن ما كان يخطر ببالهم أن الهواء الذى يملأ الغرفة يضغط على أرضها وعلى جدرانها وسقفها ضغوطا قد تبلغ أطنانا .

فما دامت السوائل تضغط فى جميع الاتجاهات كما مر بنا فلم لا يكون للغازات ضغط مثلا وهى متنافرة الاجزاء بطبيعتها ؟ ولكن ظل هذا خافيا على الناس سنين وأجيال وكان الاغريق يظنون أن الفضاء الخلاء وهو يعبر عنه اليوم بالفراغ غير موجود فى دنيانا هذه لأنها تفزع بطبيعتها منه وتسرع الى ملء كل فضاء خلاء يحدث بأية مادة تكون قريبة منه فمثلا اذا سددت طرف انبوبة مفتوحة الطرفين بسداد محكم أو مكبس ثم سحبت هذا السداد أو المكبس فى اتجاه واحد داخل الانبوبة اندفع الهواء متتبعا هذا السداد او المكبس أما اذا سددت طرف الانبوبة بسداد اّخر ثم سحبت السداد الأول ناحية الطرف المفتوح ما استطعت سحبه إلا بصعوبة وإذا تركته ارتد الى حيث كان فكان الاغريق يظنون أن هذه الصعوبة سببها كره الطبيعة للفضاء وفزعها منه فالمادة شديدة الرغبة فى ملء كل فراغ .

اذن فلتستخدم هذه الرغبة أو هذا الفزع فى رفع الماء عن طريق إنشاء مضخات كتلك التى تزال تستخدم فى ايامنا الحاضرة فأنبوبة المص فى المضخة تغمر فى الماء ثم يرفع المكب فيرتفع الماء فى الانبوبة لملء الفراغ ونجح الناس فى رفع الماء بهذه الطريقة من عمق قدره ثلاثون قدما تسعة امتار بالتقريب وظل الحال كذلك عدة قرون دون أن يزيد هذا القدر ولعل سبب ذلك يرجع الى انهم لم يكونو قاديرين على اطالة الانانبيب أكثر من ثلاثين قدم فلم يتحدد بالظبط الارتفاع الذى يرفع اليه الماء بمثل هذه المضخات فلما استطاع البعض فى زمن جاليليو أن يصنعوا انبوبة طولها اربعين قدم ظنوا أنهم قاديرن على رفع الماء الى قمتها ولكنهم وجدوا لدهشتهم انهم مهما شغلوا المضخة فان الماء لا  يمكن أن يرتفع الى أكثر من ثلاثة وثلاثين قدما أى الى ما يزيد قليلا عن عشرة امتاروبدا لهم أنه عند هذا الارتفاع لا تفزع الطبيعة من الفضاء او الخلاء ولا من الفراغ ايا كان فدلت هذه المشاهدة على ان هناك شيئا غير صحيح بخصوص هذا الفزع الموهوم وبدأ الناس يشكون فى وجود شىء كهذا .

ولقد استشير جاليليو نفسه فى الموضوع فقال بصعوبة إحداث الفضاء الخلاء ومات جاليليو قبل حل هذا الاشكال ولكن صحبه ومردية من اتباعه وتلاميذه توفروا على حل هذه المسألة حتى وصلوا فى النهاية الى تفسير كامل شامل وكان تورشيلى أشهر من خلف جاليليلو من العلماء وكان يقيم فى روما قرأ تصانيف جاليليو وهو فى السادسة عشرمن عمره وألف هو نفسه كتابا فى الميكانيكا وأطلع جاليليو على هذا الكتاب فاستدعى مؤلفه الفتى اليه وسأله أن يقيم معه فى فلورنسا ويقال ان الصداقة قامت بين الاثنين ولما مات جاليلو راى دوق توسكانيا أن يعين توريلى أستاذا للرياضيات فى الجامعة خلفا لجاليليو ولم يمض على توشيلى بعد زمن طويل حتى فكر فى تجربة جديدة مدهشة بخصوص الفراغ رأى أن يملأ أنبوبة بسائل ثقيل هو الزئبق بدل الماء وتوقع أن تكون مقاومة الفراغ المزعومة فى حالة الماء أكبر منها فى حالة الزئبق بقدر اربع عشر مرةتقريبا أى ان الزئبق لا يرتفع فى الانبوبة ثلاثة وثلاثين قدما بل حوالى ثلاثة أقدام وتعب الرجل كثيرا فى الحصول على انبوبة زجاجية تلائم غرضه لان صانعى الزجاج فى ذلك الوقت لم يكونوا قد عرفوا بعد كيف يصنعون انابيب زجاجية متينة على الرغم انهم كانوا يصنعون الاوانى الزجاجية بجمبع انواعها ولم يقم تورشيلى نفسه بعمل التجربة بل  قام بإجرائها أحد أصدقائه سنة 1643 ثم شرحها تورشيلى فى خطاب بث به الى صديق له فى روما فى السنة التالية وما ان تسلم هذا الصديق ذلك الخطاب حتى بعث بمضمونه الى صحبه فى باريس وشاع الامر وأدى شيوعه رجه شديدة فى الاوساط العلمية وتلك كانت التجربة ملئت بالزئبق انبوبة زجاجية طولها ثلاثة اقدام مغلقة عند أحد طرفيها باصبع ثم سد الطرف المفتوح بالاصبع بعد ملئها وغمرها وهو كذلك فى الانبوبة الى الحوض وبالتالى هبط الزئبق فى الانبوبة تاركا وراءه عند قمة الأنبوبة أى عند طرفها المسدود فراغا بلغ طوله حوالى نصف قدم وبذلك كان ارتفاع الزئبق فى الانوبة قدمين ونصف او76 سنتيمترا ولما سمع العالم الفرنسى الشهير بسكال بهذه التجربة قال (يخيلالى أن الفراغ ليس مستحيلا فى الطبيعة وانها لا تنفر منه فزعة هذا الفزع العظيم الذى يتخيله البعض ) .

بقى بعد ذلك ان تعلل هذه المشهدة العجيبة الفذة تعليلا معولا وسرعان ما وصل العلماء الايطاليون والفرنسيون الى تفسيرها تفسير صحيحا مبنيا على الحقائق التى كانوا وصلو  اليها عند وصلهم انبوبتين رأسيتين من أسفل ثم ملئهما بسائلين مختلفين فقد وجدوا أن عمودا من السائل الثقيل منهما يوازن عمودا أطول منه من السائل الخفيف وقالوا لو كان يمكن عمل انبوبتين ارتفاع كل منهما مائة ميل مثلا فقد تصل كل منهما الى نهاية الجو فاذا تركتت احدى الانبوبتين ملأى بالهواء ووضع فى الاخرى بدل الهواء زئبق فان عمودا قصيرا من الزئبق يتزن مع عمود طويل من الهواء وتؤلف الانبوببتين يمكن الاستدلال عليه فورا بارتفع او انخفاض عمود الزئبق المتزن فى الانبوبة الاخرى مع عمود الهواء واذن يمكن قياس الضغط الجوى ولا يحتاج الامر لا يحتاج هنا لانبوبة ارتفاعها مائة ميل أو اكثر وكذلك لا داعى لانبوبة طويلة فى الجانب الاخر فلقد رأينا مما مر علينا بنا أن ضغط السائل يتوقف على ارتفاع سطحه فقط ولما كان اتسعاع الانبوبة لا تأثير له البتة فان أنبوبة الهواء يصح أن تكون واسعة بالقدر الذى نريده او
بعبارة أخرى يصح أن نزيلها بتاتا من الجهاز لان ذلك يساعد على عدم دخول فقاقيع الهواء فى الفراغ الذى بأعلى الزئبق ويكون ارتفاع لزئبق فى الانبوبة مساويا لضغط الهواء الساقط عل سطح الزئبق وكان تورشيلى نفسه يدرك أهمية تجربته فكتب يقول لا
أريد فقط أن أوجد فراغا بل أريد أن أصنع أّلة تبين تغيرات الهواء الذى يكون يوما ثقيلا ويوما كثيفا وأخر خفيفا لطيفا وقال بسكال اه اذا كان ضغط الهواء هو الذى يرفع الزئبق أسفل الفراغ فان الزئبق الموجود فى البارومتر يجب أن يكون أقصر عند قمة جبل
وعندما يكون على الارض قريبا من سطح البحر واخذ بسكال مثانة مملؤة تماما بالهواء وصعد بها على جبل فوجد لدهشته أن المثانة جعلت تنتفخ شيئا فشيئا الى اثناء الصعود حتى انتفخت تماما عند القمة فلماهبط بها عادث الى سابق أمرها رخوة غير مشدودة وقد دلت النتيجة على ان الضغط الذى لم يكن كافيا لنفخ المثانة عند الارض استطاع أن يقاوم ضغط الهواء ويتغلب عليه عند قمة الجبل .

واصبح البارومتر الان من الاشياء العادية التى ترى تى فى بعض المنازل للدلالة على الجو فذا ما انخفض زئبقه بسرعة دل ذلك على اقتراب هبوب عاصفة واتخذ البحار حيطته فأوى لى المرفأ او أسرع الى عرض البحر بعيدا عن صخور الشاطىء ونرى
الان كل سفينة تسبح فى اليم أو على متن الهواء مجهزة ببارومتر ولكن لا يشترط ان يكون زئبقيا وذلك لاهميته فى معرفة حالة الجو واتخاذ الحيطة اللازمة .....

المصدر كتاب عجائب الفيزيقا

تعليقات