فكرة الزمان



                                         





حاول الانسان منذ غابر الزمان الاجابة ع هذا التسائل , ماذا عساه ان يكون الزمان ؟! وفى ظل الاجابة ع هذا التسائل ظهرت حضارات وثقافات لمختلف الشعوب والجماعات وفى مختلف العصور والازمان , تعكس بلا شك مفهوم تلك الشعوب عن الزمان .

فبتغير مفهومنا عن الزمان يتغير تفكيرنا بالماضى والحاضر والمستقبل وتتغير اولوياتنا وغاياتنا من الحياة وتزرع قيم ومعانى تكون بمثابة الوقود الفاعل لكل حضارة او ثقافة .

فاعتقد المصريون القدماء ف البعث والخلود بعد الموت فانشأوا لموتاهم المقابر والمعابد وشيدت الاهرامات وحنطت الجثث من اجل ذلك البعث والحياة الابدية بعد البوت .

ونجد تأثير مفهوم الزمان جليا على ثقافات وحضارات الغرب القديم والحديث , حيث كانوا يعتقدوا ان مصير الانسان محتوم ومقدر مسبقا ولا حيلة لبشر او حتى _ لالهه_ ف تغيير او حتى الهروب من هذا المصير فانعكس هذا المفهوم ف ادبهم وميثولوجيا الينونان القديمة كما يلاحظ ف محلمتى الشاعر العظيم هوميروس ( الالياذة والادويسة ) 1200 ق . م كما انعكس ذلك ايضا ع لجوئهم الى معبد دلفى(الذى اعتقد اليونانيون بقداسته) للتنبؤ بالمستقبل او المصير المحتوم ,اشتمل المعبد ع كاهنة تدعى بيثيا تتفوَّه بأَصوات غريبة ـ كما تدَّعى الأساطير ـ وهي في حالة انفعال شديد. واعتقد النَّاس أَنَّ تفوهاتها تلك كانت كلمات أَبولو.

كما رأى ارسطو 450 ق.م ان الزمان هو مدة الحركة , فالجسم الساكن بلا حركة لا زمن له اما الجسم المتحرك فزمنه هو مدة حركته ورأى افلاطون ايضا استاذ ارسطو ان الزمن دورة او دائرة تبدأ حيث تنتهى ونتيجة لذلك ظهر الاعتقاد بتناسخ الارواح واعادة دورة الحياة بعد الموت كما انعكس ذلك ايضا ع يوتوبيا افلاطون (المدينة الفاضلة) والتى تتحل وتفسد مع كل دورة الى دولة او مدينة ارستقراطية (اوليجاريكية ) مع وجود حكام محبين للشهرة والتى تتحول من ثم ف دورة جديدة الى مدينة مستبدة وبعد الاستبداد تظهر مدينة تقوم ع ديمقراطية( الرعاع ) فاصبح بذلك التنبؤ بالمستقبل مبنى ع القياس ! كما اعتقد ان الشمس والقمر والكواكب ألهة سرمدية بسبب حركتها الدائرية وانعكس ذلك حتى ف تسمية الايام وتقسيمها فلكل يوم اله يرعى الارض فيوم السبت Saturday هو يوم Saturn كوكب زحل . والاحد Sunday هو يوم الشمس sun ويوم الاتنين Monday اى يوم القمر moon . وانعكس ذلك ايضا ع التنبؤ واستشراف المستقبل فظهر علوم مثل علوم التنجيم والتطاير بالنجوم والكواكب ف معرفة المستقبل والتى يمتد اثارها الى عصرنا الحديث !

وعلى العكس من ذلك كان يرى هيراقليطس ان الزمن هو الصيرورة والتغير الدائم والمستمر ومن اقوله _ان المرء لا ينزل لنفس النهر مرتين ! بل جزم هيراقليطس ان الشىء الوحيد الثابت ف العالم هو التغير (الصيرورة)

وتميزت العصور الوسطى ف القارة العجوز بنظرة للزمان ذات خلفية دينية _مسيحية _ فاعتقدت الكنيسة بان للزمان بداية وايضا نهاية فالزمان بدأ منذ خلق الله الارض والسماء وينتهى يوم يطبقهما ويقول ف ذلك سير توماى براون "نسطيع ان نفهم الزمان لانه لا يكبرنا فقط الا بخمسة ايام "

واحصى القديس اغسطين عصورا ستة تتمضن حاضره الذى وصل اليه وتمثل على نحو رمزى ايام الخلق الستة كما يسجلها سفر التكوين وهى اليوم او العصر الاول من ادم حتى نوح والثانى من نوح حتى ابراهيم والثالث من ابراهيم حتى داود والرابع من داود حتى الاسر البابلى والخامس من العصر البابلى حتى عيسى والسادس من التجسيد حتى العصر الحالى وسيأتى عصر سابع وهو عصر راحة الانسان السماوية مع الله

او حتى قيل انه يوم القيامة كما توقع الكثير حين ذاك بنهاية العالم وقيام الساعة حتى ان البعض حسبها بالسنين والايام ! . كما ظهرت علوما ذات نزعة دينية _ان لم يكن دجلية _ تعتمد ع الكتب القديمة المزعوم تضمنها علم الغيب (المستقبل) او شفرات تدل عليه كعلم (الجفر) وهو ولد الماعز وهو عبارة عن علم اجمالى بلوح القضاء والقدر المحتوى ع كل ما كان وما يكون كليا وجزئيا .

كما ظهر علم يعتمد ع اسرار الحروف لدى المتصوفة المسلمين والذى يرجع اصوله الى علوم اليهود فمن خلال عد الحروف ف الكتب المقدسة (ويقصد هنا الحروف المقطعة اول السور مثلا )يمكن الاستدلال ع معرفة المدد واوقات الحوادث والفتن ! ومنها استدل اليهود ع مدة بقاء ملك الاسلام وامته وكان مسمى هذا العلم عند اليهود (الكبالة ).

الى ان جاء عصر جديد بافكار جديدة عن مفهوم الزمان وبدوره ثقافة وحضارة جديدة وهو عصر النهضة والذى تحرر فيه العقل الغربى وبدأ يبحث مرة اخرى عن امجاده السابقة وبعث القيم الانسانية فكان تأويل هذا العصر للزمان فكما نرى ف مسرحية (كما هواه) لويلم شكسبير 1615 م تأويل انسانى

"الزمان يسافر بخطوات متباينة بقدر تباين الشخص وسأخبرك مع من يمشى الزمان رهوا ومع من يسير الزمان خبيا ومع من يجرى الزمان ركضا ومع من يقف بلا حراك "

فقط تأثر عصر شكسبير بالنظرة الذاتية للزمان والتى جاءت مع اتجهات انسانية رومانسية تميزبها عصر النهضة ف اوربا .

كما نجد هذه النظرة الذاتية للزمان مع الفيلسوف النقدى الشهير ايمانويل كانط 1724 – 1804) ) م حيث رأى الزمان لا بوصفه خاصية من خصائص العالم الخارجى ولكن بوصفة مقولة من مقولات الذهن ضرورية لترتيب الخبرات فاصبح بذلك الزمن كله والمستقبل خاصة هو من صنع الانسان وللانسان اليد الطولى ف تشكيله وصناعته .

وبقدوم العصر الحديث ومع اكتشافات العالم الجديد والكشوف العلمية (الطبيعة ) التى احدثت رجة اهتز لها العالم اجمع ظهر مفهوم جديد للزمان وهو بعكس المفهوم الذاتى للزمان وهو الزمان الموضوعى فيقول اسحاق باور

" سواء جرت الاشياء اوثبتت فى مكانها وسواء نمنا او استيقظنا فان الزمان ينساب بايقاعه المطرد "

حيث تحرر مفهوم ذلك العصر عن الزمان الذاتى وارتباطه بالحركة وذلك بسبب اكتشافات نيوتن وجاليليو للقوانين الحاكمة لحركة الكواكب والشمس فيقول نيوتن 1642 _ 1727 م

" الزمان المطلق الحقيقى الرياضى يتدفق من تلقاء نفسه ومن طبيعته الخاصة متساويا دون العلاقة باى شىء خارجى " كما يقول باور استاذ نيوتن (الزمن يقتضى ان تكون الحركة قابلة للقياس ! )

وانعكس ذلك المفهوم انعكاسا جليا على مجريات هذا العصر و ظهرت الساعات الحديثة التى تحسب الوقت وازداد احترام العامة لعامل الوقت والزمان فيقول بينيامين فرانكلن "الوقت ثمين الوقت هو المال "

بينما قال ريتشارد باكستر " لا تضيعوا دقيقة واحدة الوقت من ذهب " .


ولعل ما اضفى تلك الهالة القدسية للزمان والوقت حين اذ هو ذلك التغير الاجتماعى الحادث ف تلك الفترة التى لا تبعد عنا اكثر من قرنين والذى لا نزال نعيش صداها حتى الان وهو ظهور طبقة جديدة وهى طبقة التجار والتى اطلق عليها ايضا طبقة البرجوازية مع انحلال طبقات اخرى واضمحلال الاقطاع وضعف نفوذ الامراء والنبلاء والباباوات ومع انطلاق الثورة الصناعية والثورة الفرنسية وتغير انظمة الحكم البيروقارطية وانتهاء اقتناع العامة بالامبراطورياات وظهور القوميات والدساتير والدول ع المستوى السياسى جعلت هذه الطبقة البرجوازية تنمى تجارتها لتصبح خارج حدود بلادها بل ليدخل العالم عصر جديد بمفاهيم جديدة لم تكن لها مثيل من قبل وذلك لما للعالم الجديد من طابع كونى او عالمى_موحد_ متقلب متغير لا يكاد ان يثبت عالم متنافس متناحر يحكمه قانون واحد وهو قانون القوة فلا مجال او مكان للامم الضعيفة ف خارطة العالم الجديد .

ومنذ ذلك الحين اصبحت الامم جميعا ف سباق مع الزمان ومع الامم الاخرى باحثة عن القوة لتسود الامم الاخرى ولعل اكثر عنصرين (قوتين ) مؤثرين ف عصرنا المعاصر وفى ثقافة العهد الحالى هم العلم والوقت او الزمان فجعل العلم الزمان اسرع واكثر تغير الامر الذى استدعى ايمان البعض بان العلم قادر على التحكم ف سير الزمان او حتى التنبؤ بالمستقبل وبذلك تحول التسائل الاول عن ماهية الزمان الى التساؤل عن ما هية المستقبل .

وخلاصة القول ان الثقافات تتباين فيما بينها ليس بتباين عناصرها ولكن لتباين تفاعلات هذه العناصر وبروز عنصرما يصاغ فى ظله العناصر الاخرى ففى عصر كاللاهوت مثلا فى العصور الوسطى يقابله بروز عناصر اخرى ف عصور تالية كالعقل فى عصر التنوير وارتبطت ثقافة كل عصر من هذه العصور المتباينة بمفهوم ما للزمان واما العصر المعاصر مع كثرة وتباين تسمياته من عصر العلم الى عصرالتكنولوجيا او عصر القلق واللامعقول ارتبطت ثقافته بمفهوم ما عن الزمان ولقد بينا تأثير العلم والتقدم التكنولوجى كعنصر هام ف ثقافتنا او حضارتنا المعاصرة وكما ان العلم اكثر عناصر الثقافة فاعلية ف باقى العناصر فان الزمان ومفهومه الحديث يبقا مفعولا به (اى بالعلم) وفاعلا متفاعلا مع العناصر الاخرى كالاخلاق والدين والفن والعلم ايضا ! مؤثرا ف غاياتنا وقيمنا ولعل هذا الجدل القائم بين العلم والزمان هو من اهم الاسباب الفكرية لظهور ما يعرف باسم علم المستقبليات او الدراسات المستقبلية او فن التنبؤواستشراف المستقبل وهو علم يجعل العلم _عصر العلم _ واعى بحركته متنبئا بخطواته القادمة ومتحكما فى غاياته واهدافه

تعليقات